كلمة «عبقرية» تعني مجموعة من السمات الخاصة لا تفترض بالضرورة تَميُّزاً أو علواً مثلما نقول «عبقرية المكان» حيث لكل مكان عبقريته الخاصة، أو «عبقرية اللغة الإنجليزية» حيث لكل لغة عبقريتها الخاصة. وحينما تُستخدَم العبارة بهذا المعنى في الكتابات الصهيونية (أو غيرها) كأن يُقال «العبقرية اليهودية»، فهي تشير عادةً إلى «الخصوصية اليهودية» (انظر: «الخصوصية اليهودية»). ولكن هذا الاستعمال نادر، والاستعمال الشائع هو أن تشير كلمة «عبقرية» إلى درجة من درجات التَميُّز إلى جانب الخصوصية. وعبارة «العبقرية اليهودية» تفترض وجود عبقرية يهودية مستقلة، وأن العباقرة اليهود يتمتعون باستقلال عما حولهم، وأن وجودهم مؤشر على تَميُّز اليهود ككل، ولذا نجد حديثاً مستفيضاً عن فضل العباقرة اليهود على الحضارة الإنسانية وعن زيادة عددهم بالنسبة للعباقرة من الشعوب والأقليات الأخرى لكن الحديث عن «العبقرية اليهودية» لا يختلف بنيوياً، في واقع الأمر، عن حديث المعادين لليهود عن «الجريمة اليهودية» أو عن «عبقرية اليهود المتأصلة في ارتكاب الموبقات والسرقة والفساد». فالحديث عن العبقرية اليهودية، تماماً مثل الحديث عن الجريمة اليهودية، يَصدُر عن تَصوُّر أن اليهودي «يهودي» وحسب أو يهودي بالدرجة الأولى ثم أمريكي أو روسي بالدرجة الثانية أو الثالثة، وأن ما يحدد سلوكه (عبقريته في الخير والشر) هو البُعد اليهودي في وجدانه ورؤيته. كما يتفق الصهاينة والمعادون لليهود على اختزال اليهودي وتجريده من أي سياق اجتماعي أو تاريخي أو إنساني وعلى وضعه على هامش التاريخ أو خارجه، حيث يقف ليساهم فيه بعبقرية فذة، أو يحاول تخريبه بكل ما أوتي من قوة ودهاء وحيلة وعبقرية إجرامية.
ولو نظرنا إلى العباقرة اليهود، بعد أن نضعهم في سياقهم التاريخي المتعيِّن، سنكتشف على الفور أن مقولة «العبقرية اليهودية» لا تملك مقدرة تفسيرية عالية. وسيظهر قصورها التفسيري حينما نسأل عن تلك السمات "اليهودية المشتركة" بين عباقرة مثل فيلون (الفيلسوف الذي عاش في العصر الهيليني)، وشعراء العرب اليهود (في الجاهليـة)، وموسى بن ميمون (المفكر الديني اليهودي الذي عاش في العالم الإسلامي في القرن الحادي عشر)، وفرويد (المفكر النمساوي اليهودي الذي عاش في أواخر القرن التاسع عشر)، وشاجال (الفنان التشكيلي الذي عاش معظم حياته في النصف الأول من القرن العشرين)، وبرنارد مالامود (الروائي الأمريكي الذي عاش في النصف الثاني من القرن العشـرين). والإجابة الوحيـدة هي أن مثل هذه السمـات المشتركة غير موجودة.
وإن اكتشف أحد عناصر يهودية مشتركة بين كل هؤلاء العباقرة، فإن تصنيفهم على أنهم يهود بالدرجة الأولى لا يفيد كثيراً في فَهْم فكرهم أو طبيعة مساهمتهم في التراث الإنساني. فيهوديتهم المشتركة ليست ذات مقدرة تفسيرية أو تصنيفية عالية، ولابد لنا أن نعود إلى التقاليد الحضارية والظروف التاريخية التي شكلت فكر ووجدان كل واحد منهم حتى يتسنى لنا الإحاطة بها. فموسى بن ميمون كاتب عربي أندلسي كان يؤمن باليهودية وتفاعُل مع التراث العربي الإسلامي. ومن خلال هذا التفاعُل نضجت عبقريته العربية، ولم تكن اليهودية سوى أحد العناصر في تكوين هذه العبقرية (وحتى هذه اليهودية كانت قد اصطبغت بصبغة إسلامية). وقصص برنارد مالامود تنتمي إلى التراث الأدبي الأمريكي لأن كاتب هذه القصص تأثر بتقاليد هذا الأدب وأتقن اللغة الإنجليزية الأمريكية وكتب روايات أمريكية تعالج موضوعات أمريكية يهودية. وحين صرح شاجال ذات مرة لمجلة تايم بأنه غير مهتم باليهودية، قامت الدنيا ولم تَقعُد، وأرسل كثير من القراء برسائل احتجاج أوضحوا فيها تأثُّـر شاجال باليهودية الحسيدية. وقد يكون هذا أمراً صحيحاً، ولكن شاجال يظل نتاج الحركات الفنية في أوربا في القرن العشرين، وبخاصة في روسيا وفرنسا. وقد تكون لبعض لوحاته نكهة حسيدية، خصوصاً أنها تعالج موضوعات يهودية مثل التوراة والحاخام، ولكنها تظل مع هذا لوحات رسمها فنان روسي فرنسي متأثر وبعمق بالتراث المسيحي!
وإذا ما تركنا مجال الفنون والإنسانيات، يصبح الحديث عن العبقرية اليهودية عبثاً وهراء لا طائل من ورائه. فبأي معنى يمكننا أن نقول إن نظرية النسبية قد تَوصَّل إليها أينشتاين من خلال عبقريته اليهودية، وكأن أينشتاين كان من الممكن أن يصل إلى ما وصل إليه من اكتشـافات باهـرة دون جهود من سبقه من علماء مسيحيين وبوذيين؟ وهل كان من الممكن أن يصل إلى ما وصل إليه من اكتشافات دون وجوده داخل الحضارة الغربية الحديثة؟ وإلا فبماذا نفسر عدم ظهور علماء طبيعة متفوقين تَفوُّق أينشتاين بين يهود الفلاشاه الإثيوبيين؟ ويُلاحَظ أن نسبة المتعلمين والمخترعين بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الغربي مرتفعة. ولكن هذا أمر طبيعي وينطبق على كل أعضاء الأقليات في أي مكان حينما تتاح أمامهم الفرصة. لكن أعضاء الأقلية يخضعون، مع ذلك، في معظم الأحيان إن لم يكن كلها، لدرجة تَقدُّم وتَخلُّف المجتمع الذي يعيشون بين ظهرانيه، فإن تَقدَّم تَقدَّموا وإن تخلف صاروا متخلفين. ولذا لم يكن هناك عباقرة يهود بين العرب إبَّان فترات الانحلال في الحضارة العربية حين أُغْلقَت فيها الحلقات الفقهية والمدارس التلمودية العليا في العراق بسبب انتكاس الحضارة العربية، بينما ازدهر الفكر العربي اليهودي في الأندلس بسبب ازدهارها.
وحتى لو رصـدنا العبقرية اليهودية بشكل مطلق، كما يفعل الصهاينة، فإننا سنكتشف أن العبرانيين وأعضاء الجماعات اليهودية، لم يلعبوا دوراً كبيراً في خلق الحضارة الإنسانية. فحينما ظهر العبرانيون على مسرح التاريخ منذ عام 1200 ق.م. رعاةً رُحَّلاً، كانت الإمبراطورية الفرعونية في مصر قد شيدت مئات المعابد والأهرامات والسدود، وكان الفن المعماري وعلوم الفلك المصريان قد وصلا إلى قمم شامخة. وحينما تأسست المملكة العبرانية المُوحَّدة على يدي داود وسليمان، لم تكن هذه المملكة سوى مملكة صغيرة ازدهرت في غياب القوى الإمبراطورية العظمى في الشرق الأدنى القديم، واعتمدت حضارياً على الدول والأقوام المجاورة اعتماداً كاملاً. أما في مجال الأدب والفن والفكر، فلا توجد أية مسـاهمة حقـيقية من جـانب العبرانيين في تراث العالم القـديم، ولا نسمع عن عباقرة يهود في فن الهندسة المعمارية (على سبيل المثال). ولا يأتي ذكر اليهود في الكتابات اليونانية أو الرومانية إلا بوصفهم شحاذين ومصدر ضيق لكُتَّاب مثل شيشرون. وإذا نظرنا إلى الحضارة العربية إبَّان فترة نهضتها، فإننا نجد أن دور اليهود كان مقصوراً بالدرجة الأولى على الترجمة والنقل من اللغات الأجنبية. وقد دفعهم اضطلاعهم بوظيفة الجماعة الوظيفية الوسيطة التي يعمل أعضاؤها بالتجارة الدولية في العالم القديم إلى معرفة العديد من اللغات، كما جعلهم ناقلين لحضارات الآخرين. ولم يكن يوجد شاعر كبير أو مفكر فلسفي عربي مشهور يعتنق اليهودية، فكنت ترى بينهم الأطباء والصيادلة والتجار حيث ظلوا مرتبطين بالإنتاج اليومي المادي، ولكن لم يُوجَد بينهم الفنانون أو المفكرون. وبعد أن انتقل مركز الحضارة إلى الغرب، ظل الأمر على ما كان عليه. ففي شرق أوربا، التي كانت تضم غالبية يهود العالم (يهود اليديشية)، ظلت الجماعات اليهودية غارقة حتى أذنيها في التأملات القبَّالية. وكانت الحـياة العقلية في الجيتو منفصـلة عن العـالم الخارجي، هذا في الوقت الذي كانت أوربا تعيش عصر نهضتها. ولذا لا نجد في أدب وحضارة العصور الوسطى أو عصر النهضة مفكراً أو رساماً أو أديباً يهودياً واحداً شهيراً. بل إن المفكرين اليهود الذين ظهروا خلال هذه الفترات الطويلة، مثل الحاخام عقيبا أو راشي أو موسى بن ميمون، كانوا مهتمين بأمور دينية يهودية ذات أهمية إنسانية محدودة. كما نعرف أنهم كانوا بلا ثقَل يُذكَر داخل مجتمعاتهم، فمـوسى بن ميمون لم يكـن معـروفاً باعتباره مفكراً دينياً، وإنما باعتباره طبيباً ومؤلف كتب في الطب وحسب. وما من شك في أن اقتصار نشاط اليهود على نشاطات إنسانية معيَّنة دون غيرها أمر طبيعي للغاية من أقلية تلعب دور الجماعة الوظيفية الوسيطة المنعزلة اقتصادياً ووجدانياً بسبب وظيفتها. ونحن لا نسمع عن العباقرة اليهود إلا مع بدايات ظهور الرأسمالية والعلمانية. وربما لم يكن من قبيل المصادفة أن إسبينوزا، أول فيلسوف يهودي غربي في العصر الحديث، ظهر في هولندا مهد الرأسمالية الحديثة. ومما له دلالة بالمثل ظهور إسبينوزا من بين اليهود السفارد المتمتعين بمستوى حضاري مرتفع بسبب احتكاكهم بالحضارة الإسلامية، على عكس اليهود الإشكناز الذين تَدنَّى وضْعُهم الحضاري داخل الحضارة المسيحية. وقد كان إسبينوزا أيضاً من أوائل المفكرين العلمانيين الذين طرحوا انتماءهم اليهودي جانباً، فلم يكن إبداعه وبروزه نتيجة انتمائه اليهودي، وإنما تم هذا الإبداع وذلك البروز رغماً عن هذا الانتماء وبسبب رفضه (وذلك مع عدم إنكار أن التراث اليهودي القبَّالي لعب دوراً مهماً في تحديد معالم فكره أو في تأكيد الواحدية المادية الكونية والاتساق الهندسي عنده واللذين يشكلان جوهر نسقه الفلسفي).
ولو نظرنا إلى العباقرة اليهود، بعد أن نضعهم في سياقهم التاريخي المتعيِّن، سنكتشف على الفور أن مقولة «العبقرية اليهودية» لا تملك مقدرة تفسيرية عالية. وسيظهر قصورها التفسيري حينما نسأل عن تلك السمات "اليهودية المشتركة" بين عباقرة مثل فيلون (الفيلسوف الذي عاش في العصر الهيليني)، وشعراء العرب اليهود (في الجاهليـة)، وموسى بن ميمون (المفكر الديني اليهودي الذي عاش في العالم الإسلامي في القرن الحادي عشر)، وفرويد (المفكر النمساوي اليهودي الذي عاش في أواخر القرن التاسع عشر)، وشاجال (الفنان التشكيلي الذي عاش معظم حياته في النصف الأول من القرن العشرين)، وبرنارد مالامود (الروائي الأمريكي الذي عاش في النصف الثاني من القرن العشـرين). والإجابة الوحيـدة هي أن مثل هذه السمـات المشتركة غير موجودة.
وإن اكتشف أحد عناصر يهودية مشتركة بين كل هؤلاء العباقرة، فإن تصنيفهم على أنهم يهود بالدرجة الأولى لا يفيد كثيراً في فَهْم فكرهم أو طبيعة مساهمتهم في التراث الإنساني. فيهوديتهم المشتركة ليست ذات مقدرة تفسيرية أو تصنيفية عالية، ولابد لنا أن نعود إلى التقاليد الحضارية والظروف التاريخية التي شكلت فكر ووجدان كل واحد منهم حتى يتسنى لنا الإحاطة بها. فموسى بن ميمون كاتب عربي أندلسي كان يؤمن باليهودية وتفاعُل مع التراث العربي الإسلامي. ومن خلال هذا التفاعُل نضجت عبقريته العربية، ولم تكن اليهودية سوى أحد العناصر في تكوين هذه العبقرية (وحتى هذه اليهودية كانت قد اصطبغت بصبغة إسلامية). وقصص برنارد مالامود تنتمي إلى التراث الأدبي الأمريكي لأن كاتب هذه القصص تأثر بتقاليد هذا الأدب وأتقن اللغة الإنجليزية الأمريكية وكتب روايات أمريكية تعالج موضوعات أمريكية يهودية. وحين صرح شاجال ذات مرة لمجلة تايم بأنه غير مهتم باليهودية، قامت الدنيا ولم تَقعُد، وأرسل كثير من القراء برسائل احتجاج أوضحوا فيها تأثُّـر شاجال باليهودية الحسيدية. وقد يكون هذا أمراً صحيحاً، ولكن شاجال يظل نتاج الحركات الفنية في أوربا في القرن العشرين، وبخاصة في روسيا وفرنسا. وقد تكون لبعض لوحاته نكهة حسيدية، خصوصاً أنها تعالج موضوعات يهودية مثل التوراة والحاخام، ولكنها تظل مع هذا لوحات رسمها فنان روسي فرنسي متأثر وبعمق بالتراث المسيحي!
وإذا ما تركنا مجال الفنون والإنسانيات، يصبح الحديث عن العبقرية اليهودية عبثاً وهراء لا طائل من ورائه. فبأي معنى يمكننا أن نقول إن نظرية النسبية قد تَوصَّل إليها أينشتاين من خلال عبقريته اليهودية، وكأن أينشتاين كان من الممكن أن يصل إلى ما وصل إليه من اكتشـافات باهـرة دون جهود من سبقه من علماء مسيحيين وبوذيين؟ وهل كان من الممكن أن يصل إلى ما وصل إليه من اكتشافات دون وجوده داخل الحضارة الغربية الحديثة؟ وإلا فبماذا نفسر عدم ظهور علماء طبيعة متفوقين تَفوُّق أينشتاين بين يهود الفلاشاه الإثيوبيين؟ ويُلاحَظ أن نسبة المتعلمين والمخترعين بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الغربي مرتفعة. ولكن هذا أمر طبيعي وينطبق على كل أعضاء الأقليات في أي مكان حينما تتاح أمامهم الفرصة. لكن أعضاء الأقلية يخضعون، مع ذلك، في معظم الأحيان إن لم يكن كلها، لدرجة تَقدُّم وتَخلُّف المجتمع الذي يعيشون بين ظهرانيه، فإن تَقدَّم تَقدَّموا وإن تخلف صاروا متخلفين. ولذا لم يكن هناك عباقرة يهود بين العرب إبَّان فترات الانحلال في الحضارة العربية حين أُغْلقَت فيها الحلقات الفقهية والمدارس التلمودية العليا في العراق بسبب انتكاس الحضارة العربية، بينما ازدهر الفكر العربي اليهودي في الأندلس بسبب ازدهارها.
وحتى لو رصـدنا العبقرية اليهودية بشكل مطلق، كما يفعل الصهاينة، فإننا سنكتشف أن العبرانيين وأعضاء الجماعات اليهودية، لم يلعبوا دوراً كبيراً في خلق الحضارة الإنسانية. فحينما ظهر العبرانيون على مسرح التاريخ منذ عام 1200 ق.م. رعاةً رُحَّلاً، كانت الإمبراطورية الفرعونية في مصر قد شيدت مئات المعابد والأهرامات والسدود، وكان الفن المعماري وعلوم الفلك المصريان قد وصلا إلى قمم شامخة. وحينما تأسست المملكة العبرانية المُوحَّدة على يدي داود وسليمان، لم تكن هذه المملكة سوى مملكة صغيرة ازدهرت في غياب القوى الإمبراطورية العظمى في الشرق الأدنى القديم، واعتمدت حضارياً على الدول والأقوام المجاورة اعتماداً كاملاً. أما في مجال الأدب والفن والفكر، فلا توجد أية مسـاهمة حقـيقية من جـانب العبرانيين في تراث العالم القـديم، ولا نسمع عن عباقرة يهود في فن الهندسة المعمارية (على سبيل المثال). ولا يأتي ذكر اليهود في الكتابات اليونانية أو الرومانية إلا بوصفهم شحاذين ومصدر ضيق لكُتَّاب مثل شيشرون. وإذا نظرنا إلى الحضارة العربية إبَّان فترة نهضتها، فإننا نجد أن دور اليهود كان مقصوراً بالدرجة الأولى على الترجمة والنقل من اللغات الأجنبية. وقد دفعهم اضطلاعهم بوظيفة الجماعة الوظيفية الوسيطة التي يعمل أعضاؤها بالتجارة الدولية في العالم القديم إلى معرفة العديد من اللغات، كما جعلهم ناقلين لحضارات الآخرين. ولم يكن يوجد شاعر كبير أو مفكر فلسفي عربي مشهور يعتنق اليهودية، فكنت ترى بينهم الأطباء والصيادلة والتجار حيث ظلوا مرتبطين بالإنتاج اليومي المادي، ولكن لم يُوجَد بينهم الفنانون أو المفكرون. وبعد أن انتقل مركز الحضارة إلى الغرب، ظل الأمر على ما كان عليه. ففي شرق أوربا، التي كانت تضم غالبية يهود العالم (يهود اليديشية)، ظلت الجماعات اليهودية غارقة حتى أذنيها في التأملات القبَّالية. وكانت الحـياة العقلية في الجيتو منفصـلة عن العـالم الخارجي، هذا في الوقت الذي كانت أوربا تعيش عصر نهضتها. ولذا لا نجد في أدب وحضارة العصور الوسطى أو عصر النهضة مفكراً أو رساماً أو أديباً يهودياً واحداً شهيراً. بل إن المفكرين اليهود الذين ظهروا خلال هذه الفترات الطويلة، مثل الحاخام عقيبا أو راشي أو موسى بن ميمون، كانوا مهتمين بأمور دينية يهودية ذات أهمية إنسانية محدودة. كما نعرف أنهم كانوا بلا ثقَل يُذكَر داخل مجتمعاتهم، فمـوسى بن ميمون لم يكـن معـروفاً باعتباره مفكراً دينياً، وإنما باعتباره طبيباً ومؤلف كتب في الطب وحسب. وما من شك في أن اقتصار نشاط اليهود على نشاطات إنسانية معيَّنة دون غيرها أمر طبيعي للغاية من أقلية تلعب دور الجماعة الوظيفية الوسيطة المنعزلة اقتصادياً ووجدانياً بسبب وظيفتها. ونحن لا نسمع عن العباقرة اليهود إلا مع بدايات ظهور الرأسمالية والعلمانية. وربما لم يكن من قبيل المصادفة أن إسبينوزا، أول فيلسوف يهودي غربي في العصر الحديث، ظهر في هولندا مهد الرأسمالية الحديثة. ومما له دلالة بالمثل ظهور إسبينوزا من بين اليهود السفارد المتمتعين بمستوى حضاري مرتفع بسبب احتكاكهم بالحضارة الإسلامية، على عكس اليهود الإشكناز الذين تَدنَّى وضْعُهم الحضاري داخل الحضارة المسيحية. وقد كان إسبينوزا أيضاً من أوائل المفكرين العلمانيين الذين طرحوا انتماءهم اليهودي جانباً، فلم يكن إبداعه وبروزه نتيجة انتمائه اليهودي، وإنما تم هذا الإبداع وذلك البروز رغماً عن هذا الانتماء وبسبب رفضه (وذلك مع عدم إنكار أن التراث اليهودي القبَّالي لعب دوراً مهماً في تحديد معالم فكره أو في تأكيد الواحدية المادية الكونية والاتساق الهندسي عنده واللذين يشكلان جوهر نسقه الفلسفي).
0 التعليقات:
إرسال تعليق